أثار مشروع قانون المسؤولية الطبية في مصر جدلًا واسعًا بين الأطباء والمشرعين، حيث يهدف القانون إلى تحقيق عدالة للمرضى في حالات الأخطاء الطبية، لكنه في الوقت ذاته ألقى بظلالٍ من القلق على المجتمع الطبي بسبب نصوصه العقابية الصارمة التي قد تعرض الأطباء للحبس حتى في أخطاءٍ واردة أثناء الممارسة اليومية. فهل يُعتبر هذا القانون خطوةً نحو رفع جودة الخدمات الطبية؟ أم أنه سيفٌ مُسلط على رقاب الأطباء قد يدفعهم إلى التردد في إنقاذ المرضى خوفًا من العقاب؟ هذا المقال يناقض بنود القانون عبر طرحٍ واقعي لمواده وإجاباتٍ على أبرز الأسئلة المثيرة للجدل.

س/ ما هي حالات الخطأ الطبي “الوارد حدوثها” التي يُعاقب عليها بالحبس؟
ج/ وفق القانون، حتى الأخطاء الطبية الواردة في الممارسة اليومية قد تؤدي إلى الحبس! إليك أمثلة:
-
خطأ في موقع الحقن:
إذا وضع طبيب التخدير “كانيولا” في الشريان العضدي بدلًا من الوريد (حتى مع تصحيح الخطأ فورًا)، ونتج عنه تجمع دموي بسيط، يعتبر هذا خطأً يُعاقب بالحبس. -
تأخير التشخيص الصحيح:
إذا شخصت مريضًا بأعراض مشتركة بين أمراض متعددة، وتبين لاحقًا أن التشخيص خاطئ (حتى لو اكتشفه طبيب آخر)، يُعتبر “تأخيرًا في التشخيص” يؤدي للحبس إذا تسبب في ضرر للمريض. -
التدخل في حالات الطوارئ دون تاريخ مرضي:
إذا عالجت مريضًا فاقد الوعي في حادثة بدون معرفة تاريخه المرضي (مثل حساسية دواء معين)، وأدى ذلك لوفاة أو عاهة مستديمة، يُحاسب القانون الطبيب بالحبس!
التعليق: “لِمَ الحبس رغم أن المريض فاقد الوعي ولا يوجد أهله؟!”
السبب: القانون يُلزمك بتسجيل التاريخ المرضي قبل التشخيص (حتى في الطوارئ) وفق المادة 5، فقرة 2.
س/ هل الحبس يطال فقط “الخطأ الطبي الجسيم” كما تدعي الوزارة؟
ج/ لا، هذا غير صحيح!
القانون لم يُعرف “الخطأ الجسيم” واكتفى بتعريف “الخطأ الطبي” بشكل عام في المادة 1، بند 10:
“الخطأ الطبي: كل فعل أو امتناع عن فعل يخالف الأصول العلمية أو أخلاقيات المهنة.”
أي إخلال بالتزام بسيط وارد في مواد القانون (مثل عدم تسجيل التاريخ المرضي) يُعتبر خطأً يُعاقب عليه بالحبس.
س/ ما الدليل على أن الأطباء سيتعرضون للحبس بسبب أخطاء واردة؟
ج/ النصوص القانونية واضحة:
-
المادة 27 (عقوبة التسبب في الوفاة):
“يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر أو غرامة 100 ألف جنيه.”
-
المادة 28 (عقوبة التسبب في إصابة أو عاهة):
-
الفقرة 1: “الحبس حتى سنة أو غرامة 50 ألف جنيه لأي خطأ طبي يؤدي لإيذاء المريض.”
-
الفقرة 2: “الحبس حتى سنتين أو غرامة 300 ألف جنيه إذا نتج عن الخطأ عاهة مستديمة أو كان الخطأ جسيمًا.”
-
الاستنتاج:
العقوبة تشمل جميع أنواع الأخطاء (حتى الواردة)، لأن القانون لم يستثنِ الحالات الطارئة أو التعقيدات التشخيصية.
ملاحظات قانونية هامة:
-
الفرق بين “الخطأ” و”الجسيم” غير واضح:
العقوبات متشابهة في الحبس، مما يخلق غموضًا ويُعرض الأطباء للمساءلة حتى في الأخطاء البشرية الواردة. -
إشكالية حالات الطوارئ:
كيف يسجل الطبيب التاريخ المرضي لمريض فاقد الوعي بلا مرافق؟!
القانون لم يُقدم حلًّا عمليًّا لهذه المعضلة.
ردة فعل الأطباء تجاه قانون المسؤولية الطبية في مصر:
لاقى قانون المسؤولية الطبية في مصر رفضًا واسعًا من شريحة كبيرة من الأطباء، الذين وصفوه بـ”قانون التخويف” لا التنظيم. فبدلًا من دعم الأطباء في بيئة عمل شديدة الصعوبة، زاد القانون من الضغوط النفسية والمهنية عليهم.
صرّح أحد أطباء الطوارئ قائلاً:
“نحن لا نمانع في المحاسبة، ولكن نريد قانونًا يفهم طبيعة مهنتنا التي تتطلب قرارات سريعة، لا قانونًا يجعلنا نُفكر ألف مرة قبل كل تدخل لإنقاذ مريض.”
العديد من الأطباء بدأوا في التفكير في تغيير تخصصاتهم أو الهجرة، خاصةً في ظل نقص واضح في الحماية القانونية داخل بيئة العمل.
الجمعيات الطبية، بدورها، دعت إلى حوار مجتمعي واسع ومشاركة نقابة الأطباء بشكل فعّال في تعديل نصوص القانون.
الأسئلة الشائعة عن قانون المسؤولية الطبية في مصر:
-
هل القانون يوفر تأمينًا للطبيب ضد المخاطر؟
لا يوجد نص صريح يُلزم الدولة أو المستشفيات بتوفير تأمين مهني للأطباء، رغم أن العقوبات قد تكون جنائية. -
هل يُحاسب الطبيب إذا رفض التدخل في حالة حرجة خوفًا من العقاب؟
نعم، يمكن مساءلته بتهمة الإهمال أو الامتناع عن تقديم الرعاية، مما يُوقعه في تناقض بين العقاب على الفعل والعقاب على الامتناع. -
هل القانون يشمل الأطباء فقط؟
يشمل جميع مقدمي الرعاية الصحية (أطباء، صيادلة، ممرضين) لكن التركيز الأكبر وقع على الأطباء باعتبارهم أصحاب القرار النهائي. -
هل هناك استثناءات واضحة لحالات الطوارئ؟
لا. القانون لم يحدد استثناءات كافية، وهو ما أثار قلقًا كبيرًا في أوساط أطباء الطوارئ والعناية المركزة.
الخاتمة:
مشروع قانون المسؤولية الطبية في مصر يضع الأطباء أمام مأزقٍ وجودي: فمن ناحية، يسعى لتحقيق عدالة للمرضى، لكن من ناحية أخرى، يُهدد بتحويل الممارسة الطبية إلى ساحةٍ من الخوف والتردد، خاصةً في الحالات الحرجة التي تتطلب قراراتٍ سريعة. إن التوازن المطلوب بين حقوق المرضى وضمان حماية الأطباء لن يتحقق إلا بمراجعة النصوص الغامضة، وتوضيح تعريف “الخطأ الجسيم”، واستثناء الحالات الطارئة من العقوبات الصارمة. فالقانون الجيد لا يُشرّع للعقاب فقط، بل يُشجع على الإبداع الطبي الآمن.